أصحاب الأخدود
موقع القصة في القرآن الكريم:
ورد ذكر القصة في سورة البروج الآيات 4-9.
يقول المولى عز وجل في سورة البروج: {قُتِلَ أصحابُ الأخدود (4) النارِ ذاتِ الوَقود (5) إذْ هم عليها قُعود (6) وهُم على ما يفعلونَ بالمؤمنين شُهود (7) وما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا باللهِ العزيزِ الحميد(
}.
القصة:
القصة عن الملك (ذو نواس) وهو آخر ملوك الدولة الحميرية، الذي أقدم على حفر أخدودٍ كبيرٍ جعل منه فرناً أحرق فيه الآلاف من سكان دولته ممن رفضوا التخلي عن ديانتهم والرجوع إلى عقيدتهم السابقة.
كان هناكّ رجلاً من أتباعِ سيدنا عيسى ابن مريمَ المسلمينَ يقال له فَيْميونُ الراهبُ، وكان صالحًا مجتهدًا زاهدًا في الدنيا، مجابَ الدعوةِ، وكان سائحًا ينزلُ بين القرى، لا يُعرفُ بقريةٍ إلاَّ خرجَ منها إلى قريةٍ أخرى لا يأكل إلا منْ كسبِ يديهِ.
تعرَّف إليهِ أحدُهم وأسلمَ على يديهِ واسمهُ صالحٌ، وبينما هما في سياحتهما في جزيرةِ العربِ اختطفتْهما مجموعةٌ من قطّاع الطرقِ وباعوهما بنجرانَ وهو اسمُ ناحيةٍ فيها، وكان أهلُ نجرانَ يومئذٍ كبقيّة العربِ وقتها من عبدَةِ الأوثانِ يعبدون نخلةً طويلةً في أرضهم، لها عيدٌ في كل سنةٍ، وإذا جاءَ العيدُ علقوا عليها كل ثوبٍ حسَن وجدوه، وزيَّنوها بحُلي النساء، ثم خرجوا إليها فعكفوا عليها كل اليوم.
اشترى رجلٌ من وُجهائهم فيميونَ فكان إذا قام في الليل ليصلي، أضاءَ له البيتُ حتى يأتيَ الصباحُ من غيرِ مصباح، إذ كان وليًّا ذا كرامات، فرأى ذلك سيّده، فأعجبه ما يرى منه، فسأل عن دينه، فأخبره به، وقال له فيميون: إنما أنتمُ على باطل، إنَّ هذه النخلة لا تضرُّ ولا تنفعُ، ولو دعوتُ عليها إلهي الذي أعبدهُ لأهلكها بإذنه تعالى، وهو الله وحدَه لا شريك له.
فقال له سيّدُه: فافعل، فإنَّك إن فعلتَ دخلنا في دينك، وتركنا ما نحنُ عليه.
قام فيميونُ وتوضَّأ وصلى ركعتين، ثم دعا الله عليها، فأرسل اللهُ عليها ريحًا قلعتها وأسقطتها من أصلها إلى الأرض، فاتّبعه عند ذلك أهلُ نجران على دينِ الإسلام، ثم دخلتْ عليهم الأحداثُ وحرَّفوا الدينَ وحصل الكفرُ وعمَّ.
كان من أمرِ فيميونَ عندما انتشرَ الفسادُ أن بنى خيمةً له خارجَ نجرانَ يتعبَّدُ اللهَ تعالى وحدَه فيها وانقطع عن الناس، وحدثَ أنّه كان في نجرانَ ملكٌ لديه ساحرٌ وقد صار عجوزًا فطلبَ الساحرُ من الملِك أن يبعثَ له بغلامٍ كي يعلّمهُ السحرَ. وكانت خيمةُ فيميونَ بينَ نجرانَ وقرية الغلامِ الذي أرسلَه الملِكُ ليتعلمَ السحرَ.
ذات يومٍ مرَّ الغلامُ بخيمةِ الراهبِ فسمِعَه يتلو الإنجيل الصحيحَ بصوتٍ عذبٍ، فأعجبه ما يرى منه من صلاتِه وعبادته، فصار يجلسُ إليه ويسمعُ منهُ حتى أسلمَ فوحَّد اللهَ وعبدَه، وصار يسأل عن أحكامِ الإسلامِ حتى ترقَّى في العلمِ والعبادة. وكان الغلامُ أحيانًا يتأخّر عند الراهبِ فإذا وصل عند الساحرِ ضربَه لتأخُّرِه وإذا جاءَ إلى أبيهِ متأخّرًا ضربَه أبوهُ.
فشكا الغلامُ أمرَه إلى الراهبِ فقال له: إذا خشيتَ الساحرَ فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيتَ أهلَكَ فقُل حبسني الساحرُ. كي لا يُظلمَ لأنَّه يتعلم الدينَ وأحكامَه في زمنٍ قلَّ فيه المسلمون.
كان في ذلك البلد حيَّة عظيمة قطعت طريق الناسِ، فمرَّ بها الغلامُ وحمل حجرًا ثم سمَّى اللهَ تعالى ورماها به فقتلها، وأتى الراهبَ فأخبره، فقال له الراهبُ: إنَّ لك شأنًا عظيمًا، وإنَّك ستُبتلى فإن ابتُليتَ فلا تدلَّ أحدًا عليَّ.
صار الغلامُ إذا دخل نجرانَ لم يلقَ أحدًا به ضرٌّ أو كان أكمَه أي أعمى أو أبرص وهو المصابُ بمرضٍ جلديّ منفّرٍ إلا قال له: يا عبد الله، أتوحِّدُ اللهَ وتدخل في دين الإسلام، وأدعو الله فيعافيكَ مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحّد الله ويُسلم، ويدعو له فيشْفَى، حتى لم يبقَ بنجرانَ أحدٌ به ضرّ إلا أتاهُ فاتَّبعه على أمره، ودعا له فعوفي. وكان للملكِ ابنُ عمّ أعمى، فسمعَ بالغلامِ وقتْلِ الحيَّة فأتاهُ بهدايا كثيرة فقال له: ما ها هنا لك كلُّه إن أنتَ شفيتني.
فقال الغلامُ: إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي اللهُ من يشاء، فإن أنتَ ءامنتَ بالله دعوتُ اللهَ لكَ فشفاكَ وعافاك.
فآمنَ الرجل باللهِ وأسلمَ فشفاهُ الله، فأتى ابنُ العمّ هذا إلى الملِك فجلسَ إليهِ كما كان يجلسُ سابقًا، فقال له الملك الذي كان يدَّعي الألوهيةَ والعياذ بالله تعالى: من ردَّ عليكَ بصرَك؟ قال: ربّي. قال: ولكَ ربٌّ غيري؟ قال: ربي وربُّك الله، فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دلَّ على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: يا غلامُ قد بلغَ من سحرِك ما تبرىءُ الأكمه والأبرص.
فقال الغلامُ: إنّي لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله. فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دلَّ على الراهبِ، فجيء بالراهبِ فقيل له: ارجعْ عن دينك الإسلام، فأبى ولم يرضَ بالكفرِ ولا بالرجوعِ عن دينه، فدعا الملك فوضعَ المنشارَ في مَفرِقِ رأس الراهبِ فشقَّه، ولم يكتفِ الملكُ بذلكَ بل جاءَ بابن عمّه وقال له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه أيضا فشقّه هو الآخر.
ثم جاء بالغلامِ فقال له: ارجع عن دينك، فأبى فدفعَه إلى بعضِ جنوده وقال لهم: اذهبوا إلى قمّة الجبل فإن رجع عن دينه اتركوهُ وإلاّ فاطرحوه إلى الأسفل.
فصعدوا به إلى قمّة الجبل، فقال الغلام داعيًا ربَّه عز وجل: اللهمَّ اكفنيهم بما شئتَ، فاهتزَّ الجبلُ فسقطوا وقُتلوا. وعاد الغلامُ سالمًا إلى الملك، فلما رءاهُ استغربَ ودهش، وسأله عن الجنود فقال: كفانيهمُ الله. وقد عاد الغلام رغم أنه كان يستطيع الفرار والهروبَ لأنه كان يطمعُ أن يتراجعَ الملِك عن كفره فيُسلم فيكونَ إسلامُه سببًا في إسلامِ قومه.
فدفعه الملِك إلى مجموعةِ جنودٍ ءاخرين وقال لهم: اذهبوا به فاحملوهُ في سفينةٍ فإذا صرتُم في وسط البحرِ انظروا في الأمر فإن تراجع عن دينه فعودوا به وإلاّ فاقذفوه فيه، فذهبوا به فدعا الغلامُ قائلاً: اللهمَّ اكفنيهم بما شئتَ، فانقلبت بهم السفينة فغرق الجنود وعاد الغلامُ سالمًا إلى الملِك، فدهش مرة ثانية من رؤيته، وسأله عن الجنودِ فأخبره بما جرى ثم قال للملِك: إنّك لستَ بقاتلي حتى تفعل ما ءامرُكَ بهِ.
قال الملك: وما هو؟ قال: تجمعُ الناسَ في مكانٍ واحدٍ وتصلُبني على جذعٍ ثم تأخذُ من جعبةِ سهامي واحدًا ثم تضعه في القوسِ ثم تقولُ بسم اللهِ ربّ الغلامِ ثم ترميني فإذا فعلتَ ذلك قتلتني.
جمعَ الملكُ الناسَ وصلبَ الغلامَ كما أخبره ثم أخذ سهمًا من جعبتهِ ونفَّذ ما أمره به الغلام ثم رماه فوضعَ الغلامُ يده موضع السهم فمات. فقال الناسُ عندها: ءامنَّا بربّ الغلام، لا إله إلا الله، لا إلهَ إلاَّ إلهُ عبدِ اللهِ بنِ الثامرِ (وهو اسم الغلام).
فقال وزراء الملك: أرأيتَ ما كنتَ تحذرُ قد والله نزلَ بكَ حذرُك، وءامن الناسُ وأسلموا.
استشاطَ الملكُ غيظًا وغضبًا وأمر بإغلاقِ أبواب المدينةِ ثم شقَّ أخاديدَ في الأرضِ قيل إن عددها سبعة، طول كل أخدود منها أربعون ذراعًا، وعرضُه اثنا عشر ذراعًا، ثم طُرح فيها النفطُ والحطب وأُجّجت نيرانُها وبدأت ألسنة اللهب تتصاعد منها، ثم وقف الملك وأعوانُه على جانبي كلّ أخدود، ويجلبون المسلمَ فإن أبى الرجوعَ عن دينِه قذفوهُ بها وإلا تركوه.
رمى أعوان الملك في النار قرابة عشرينَ ألفًا من المسلمين وقيل أكثر ما بين رجال وشيوخ ونساء وأطفال، حتى إنّه جيء بامرأة مسلمةٍ وكان لها ثلاثة بنين، أحدهم رضيع فقال لها الملك: ارجعي وإلا قتلتك أنت وأولادَك، فأبت، فألقى ابنيها الكبيرينِ، فلم تتراجع، ثم أخذ الصغير ليلقيه فبكت فأنطقَ اللهُ ابنها الرضيع وقال :"يا أماه، لا ترجعي عن دينكِ، لا بأس عليك" فألقاه وألقاها في أثره.
وروي أن المسلمين كانت تقبض أرواحهم قبل أن تمسَّهم النارُ وحرُّها. ثم بعد أن رمى الملك من رمى ارتفعت النار من الأخدود فصارت فوق الملِك وأعوانهِ أربعين ذراعًا ثم هبطتْ عليهم وأحرقتهم فذابوا وتحولوا إلى رماد.