أنبياء أهل القرية
يحكي الحق تبارك وتعالى قصة أنبياء ثلاثة بغير أن يذكر أسمائهم، كل ما يذكره السياق أن القوم كذبوا رسولين فأرسل الله ثالثا يعزرهما، لكن الناس ظلوا على إنكارهم للرسل وتكذيبهم.
يقول المولى عز وجل: (قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ) (سورة يس: الآية 15).
لم يذكر القرآن من هم أصحاب القرية ولا ما هي القرية، وقد اختلفت فيها الروايات، وإن كان عدم إفصاح القرآن عنها دليل على أن تحديد اسمها أو موضعها لا يزيد شيئاً في دلالة القصة وإيحائها.
والقصة توضح الاعتراض المتكرر على بشرية الرسل والذي تبدو فيه سذاجة التصور والإدراك, كما يبدو فيه الجهل بوظيفة الرسول، فالناس دائما يتوقعون أن يكون هناك سر غامض في شخصية الرسول وحياته تكمن وراءه الأوهام والأساطير.
فالغالبية العظمي من الناس تتوقع أن الرسول لا يجب أن يكون شخصية مكشوفة بسيطة لا أسرار فيها ولا ألغاز حولها?!، لايجب أن يكون شخصية بشرية عادية من الشخصيات التي تمتلىء بها الأسواق والبيوت?!
وهو تصور ساذج، فالأسرار والألغاز ليست صفة ملازمة للنبوة، والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية، وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهج.
النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به فلابد أن يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجاً من الحياة يملكون هم أن يقلدوه.
وعودة إلى أنبياء القرية، فقد أكد الرسل لقومهم في ثقة المطمئن إلى صدقه, العارف بحدود وظيفته، إن الله يعلم، وإن وظيفة الرسل البلاغ، وهم بعد ذلك أحرار فيما يتخذون لأنفسهم من تصرف. وفيما يحملون في تصرفهم من أوزار. والأمر بين الرسل وبين الناس هو أمر ذلك التبليغ عن الله; فمتى تحقق ذلك فالأمر كله بعد ذلك إلى الله.
لكن أهل القرية الضالين لم يأخذوا الأمور هذا المأخذ الواضح السهل اليسير، قالوا: إننا نتشاءم منكم ونتوقع الشر في دعوتكم فإن لم تنتهوا عنها فإننا لن نسكت عليكم, ولن ندعكم في دعوتكم: (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (يّـس:18)
وبرغم هذه الرد المخيب لكن الواجب الملقى على عاتق الرسل قضي عليهم بالمضي في الطريق، فالقول بالتشاؤم من دعوة أو من وجه خرافة من خرافات الجاهلية، والرسل يبينون لقومهم أنها خرافة وأن حظهم ونصيبهم من خير ومن شر لا يأتيهم من خارج نفوسهم إنما هو معهم مرتبط بنواياهم وأعمالهم, متوقف على كسبهم وعملهم وفي وسعهم أن يجعلوا حظهم ونصيبهم خيراً أو أن يجعلوه شراً.
وسياق القصة لا يذكر بالتحديد ماذا كان من أمر هؤلاء الأنبياء، إنما يذكر ما كان من أمر إنسان آمن بهم، ووقف بإيمانه أقلية ضعيفة ضد أغلبية كافرة.
شخص جاء من أقصى المدينة يسعى وقد تفتح قلبه لدعوة الحق، فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها بعد ما رأى فيها من دلائل الحق والمنطق، وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره لم يطق عليها سكوتاً، ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله الفجور ولكنه سعى للحق الذي آمن به.
قال الرجل المؤمن لقومه: اتبعوا هؤلاء الرسل فإن الذي يدعو مثل هذه الدعوة وهو لا يطلب أجراً, ولا يبتغي مغنماً صادق، وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبي تكليفاً من الله? ومجابهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة? والتعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم, وهو لا يجني من ذلك كسباً, ولا يطلب منهم أجراً? وهداهم واضح في طبيعة دعوتهم. فهم يدعون إلى إله واحد. ويدعون إلى نهج واضح. ويدعون إلى عقيدة لا خرافة فيها ولا غموض. فهم مهتدون إلى نهج سليم, وإلى طريق مستقيم.
ثم عاد يتحدث إليهم عن نفسه وعن أسباب إيمانه, ويناشد فيهم الفطرة التي استيقظت فيه فاقتنعت بالبرهان الفطري السليم، ثم يبين ضلال المنهج المعاكس منهج من يعبد آلهة غير الرحمن لا تضر ولا تنفع.
يقول المولى عز وجل في كتابه الحكيم: (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (يّـس:25).
ويسرد سياق القصة بعد ذلك أن القوم الكافرين قتلوا الرجل المؤمن، وإن كان لا يذكر شيئاً من هذا صراحة إنما يسدل الستار على الدنيا وما فيها, وعلى القوم وما هم فيه ويرفعه لنرى الرجل المؤمن منعما في الجنة.
يقول الله تعالى: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ .بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).
هذا كان جزاء الإيمان وأما الطغيان فكان أهون على الله من أن يرسل عليه الملائكة لتدمره:
(وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ .. إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ).
فالوصف في هنا يحكي أن الهلاك جاء بصيحة واحدة، ولم يكن الأمر يستدعي نزول الملائكة, تهويناً لشأنهم, وتصغيراً لقدرهم. فما كانت إلا صيحة أخمدت أنفاسهم.